بقلم: عبدالحفيظ محمد أمين *
عندما خططت لزيارتي لبلد العجائب الهند وضعت ضمن أولويات البرنامج زيارة تاج محل في أكرا، والتعرف على سيرة الإمبراطور المغولي شاه جيهان وقصة حبه لزوجته الثانية الإمبراطورة ممتاز محل عن كثب في واحدة من أجمل المناطق الأثرية في العالم والمصنفة كإحدى عجائب الدنيا السبع. تطلبت رحلتي هذه زيارة منطقة المثلث الذهبي وهي مدن دلهي وأكرا وجيبور وقطع أكثر من 450كم تقريباً بالسيارة في الريف الهندي في تجربة سياحية جديدة.
أقلعت الطائرة من مدينة بومبي إلى العاصمة دلهي لمدة ساعتين تقريباً، بادئاً جولتي بزيارة منطقة قطب منار الأثرية وفيها أقدم مسجد بني في الهند ،يصل عمره لأكثر من ألف عام عاكساً الزخرفة الإسلامية السائدة آنذاك ويبلغ ارتفاع المئـــذنة 72متراً، ولا يوجد سقف متبق لهذا المسجد الآن.
صليت في المسجد الجامع، وهو بناء جميل رائع عمره أكثر من 500 سنة تقريباً، بناه الإمبـــــراطور شاه جيهان ويقـع في منطقة دلهي القديمة التي تقطنها نسبة كبيرة من المسلمين.
كانت تجربة مثيرة لي عندما مارست هوايتي في إمساك ثعبان الكوبرا من الحاوي الهندي الذي كان يحرك مزماره يمنة ويسرة فيتهادى الكوبرا على أنغامه، بالرغم من أن الثعبان لا يسمع، لكنه يستشعر ما حوله من خلال لسانه، ويرى بالأشعة تحت الحمراء.
مررت بحديقة راج جات مهاتما غاندي حيث دفن في عام 1948م، ومنطقة جان كابوري (حي السفارات)، وبوابة الهند حيث تجرى الاستعراضات العسكرية، كما دخلت أحد معابد الهند وتعرفت على معتقداتهم .
في اليوم التالي انطلقت إلى مدينة أباطرة المغول أكرا، وهي تبعد حوالي 204كم من العاصمة، استغرقت الرحلة أكثر من خمس ساعات بالسيارة، ويمر هذا الطريق بثلاث ولايات تنتشر المصانع على جانبيها.
قيادة السيارات
قيادة السيارات في الهند تصاحبها آلة التنبيه المزعجة جداً لتشكل أشد أنواع "التلوث الضوضائي" فمن دونها لا يمكن للسائق السير في الطريق الضيق ذي المسارين.
تنتشر (الراكشا) في الهند بشكل كبير،وهي وسيلة نقل خفيفة لأغلب شرائح الشــعب بثلاث عجلات وتنقسم إلى (Cycle Raksh) وهي دراجة يحركها الدارج بقدميه، و(Auto Raksh) وهي دراجة نارية بمحرك بنزين أو ديزل تحمل في الأصل راكبين في الخلف والسائق في الأمام، إلا أنها تحمل أحياناً (8 - 12) راكباً كما شاهدتها في الريف.
الفيل الهندي مع سائسة
على الطريق باتجاه أكرا شد انتباهي وجود أبراج قديمة منتظمة المسافة وعندما سألت سائقي (بايبو جغمال) عنها، أخبرني بأنها أبراج إرشاد لقوافل المسافرين من مدينة أجرا إلى دلهي قديماً، وكان بها بريد سريع يربط أجزاء الإمبراطورية المغولية ببعضها ، ويمكن أن تصل رسائل الإمبراطور المغولي من أكرا إلى حكام الولايات الهندية من خلال بريد أسرع، وهو اطلاق صواريخ بألوان معينة لها معان خاصة.
توقفت في الطريق لأخذ قسط من الراحة وتناول طعام الغداء في أحد فنادق الدرجة الأولى، ولا أنصح أبداً بتناول الطعام في المطاعم والمقاهي الشعبية المنتشرة على جانبي الطريق.
وجــــــــدت ثلاثة أطفال يستجدون المال عن طريق رقص فلكلوري ويرتدون ملابس شعبية تميز منطقتهم، وعندما ســـــألت عنهم قيل لي إن الفتـاة يتيمة الأب فــــرثيت لحالها وزدت في مكافأتها عن زميليها.
شاهدت حادثاً لشاحنتين نتج عنه مقتل شخص، وكان ممدداً على الطريق بينما يتلقى البعض الآخر مساعدات من بعض السيارات المارة ريثما تصل سيارة الإسعاف، فهناك مركبات غير قانونية تسمى (الجوقاشر) محركاتها مضخات ماء ديزل حولت إلى سيارات تفتقر للحد الأدنى من معدلات السلامة وتحمل الكثير من القرويين بمبالغ زهيدة.
مررت بعدة قرى ومـــدن منهـــا (بالوار، هودال، كوسي، براندفان، ماثرا) وفيها مسجد بناه المسلمون المغول.
أحب أن أشير لوجود الكثير من الباعة المتجولين الذين يبيعون القطع التذكارية الصغيرة، وأصف هنا أسلوب بيعهم في أغلب المدن الهندية التي زرتها (إلا فيما ندر)، حيث يطلب البائع مبلغاً كبيراً جداً وعندما ترفض الشراء يسألك عن السعر الذي ترغبه كأسلوب إغراء، فتقدم سعراً ربما يكون أكثر من السعر الحقيقي بكثير، لذا أقترح عدم الشراء من أول بائع ،وتعلم فن المفاوضة بتقديم سعر يمثل 10% من السعر الذي طلبه البائع ومن ثم تبدأ عملية المزايدة.
تـــــــاج محـــــــل
وصلت أخيراً إلى مدينة أكرا وكان في استقبالي المرشد السياحي نعيم خان الذي اصطحبني إلى زيارة تاج محل، وشاهدت بعض الميادين العامة التي تزينها بعض التماثيل للقادة الهنود ومررت بأحد الشوارع الرئيسية وعلى جانبيه قصور النبلاء الإنجليز الذين خرجوا منها عام 1947م.
منعاً للتلوث ركبنا عربة (ركشا) كهربائية عند وصولنا إلى "تاج محل" والذي له ثلاث بوابات رئيسية، حيث دخلت من بوابة "التاج" الهائلة المبنية من الحجر الرملي الأحمر، على يمين البوابة غرف العمال والمهندسين الذين بنوا المكان، وفي أعلى البوابة الضخمة كانت هناك اثنتان وعشرون قبة صغيرة تشير لعدد السنوات التي استغرقها بناء تاج محل.
شاهدت منظر البناء الجميل الأبيض، وأعبر عنها ببساطة بهذه الكلمات :"إنها آية في فن المعمار الهندسي وقطعة فنية نادرة لا تقدر بثمن في العالم".
لقد تزوج الإمبراطور المغولي الخامس شاه جيهان زوجتين، لم تنجب له الأولى واسمها "سكندري بيكم"، أما الثانية فهي الإمبراطورة ممتاز واسمها الحقيقي "أنجومن بانو" أنجبت له أربعة عشر من الأبناء توفي ثمانية منهم وبقي ستة، أربعة أبناء وبنتان، لقد أحبها بعمق بعد قصة خلدها التاريخ، وطلبت منه أن لا يتزوج بعدها إذا ماتت، وتوفيت وهي تنأستغفرالله الطفل الرابع عشر عام 1628م في منطقة "برهان بر" جنوب الهند بالقرب من بومبي ودفنت هناك، وحزن لفراقها كثيراً، فرغب أن يخلد ذكراها ببناء "تاج محل".
أسند الإمبراطور شاه جيهان هذه المهمة للمهندس التركي عيسى أفندي والمهندس محمد سيازي خان الإيراني فوضعا تصاميم البناء، وبالفعل بدأ العمل في البناء عام 1631م وانتهى عام 1653م، وشارك في البناء حوالي 22 ألفاً من العمال والمهندسين، وبالداخل مسجد وقصر للضيافة استغرق بناؤهما خمس سنوات، وهناك أربع منارات، ثلاث منها قريبة بنيت مائلة عكس الاتجاه لئلا تقع على البناء في حالة حدوث زلزال، أما المنارة الرابعة فبنيت بزاوية قائمة بعيدة قليلاً، ولا ترمز المنارات الأربع لشيء معين بل تعد ديكوراً جميلاً للبناء.
بُني تاج محل من الرخام الأبيض النقي (الماربل) واستخرج من محجر أستغفراللهل "ماكراتا" والذي يبعد 563كم (في إقليم راجستان)، وبالمكان بوابة جميلة مزخرفة غاية في الإبداع الفني مزينة بسورة (يس) بالخط الفارسي بحروف عربية ومزخرفة برسوم إسلامية بألوان جميلة محفورة على الرخام، وأستغفراللهت الأحجار الملونة طبيعياً من أفغانستان ومصر وتركيا وإيران.
في عام 1637م نقلوا رفات الإمبراطورة ممتاز محل من جنوب الهند ووضعت في مركز المبنى على حسب التصميم الهندسي، وعندما اكتمل بناؤه طلب الإمبراطور شاه جيهان من المهندسين اللذين قاما بالبناء عدم بيع فنهما لأحد من بعــده، ووافقا على رغبة الإمبراطور في حفل مهيب.
ومن أجمل المناظر تلألؤ بلورات الرخام الأبيض نتيجة لانعكاس ضوء القمر في منتصف كل شهر ليعطي منظراً مهيباً يأخذ بالألباب ويثير البهجة في النفوس، وكأن المكان يشع بالنور وسط الظلام.
لقد كلف بناء "تاج محل" مبالغ طائلة جداً، كلف الكثير من الجهد والمال، وارتكب الإمبراطور شاه جيهان خطأً فادحاً عندما بدأ في تصميم ضريحه الأسود على الجانب الآخر من تاج محل (يفصل بينهما نهر يامونا)، وبالفعل بدأ المهندسون في بناء ضريح (شاه جيهان) مما أثار استياء الشعب والجيش معاً حيث قام بعض قادة الجيش بتنصيب ابنه "أورانج زيب" إمبراطوراً وعزل والده الإمبراطور شاه جيهان، وبالفعل وضع والده رهن الإقامة الأستغفراللهرية في قصر (أكرا) وظــــل محبوساً في قسم منه، ومنع عنه الاتصــــال بأحد إلا ابنتيه (جيهان آرا وروشان آرا) اللتين كانتا تؤنسان وحشته، وكان يحلو له الجلوس في إحدى الشرفات العالية المفضلة لديه يتأمل تاج محل من بعيد، يناجي زوجته متذكراً أيامه السعيدة معها.
توفي الإمبراطور شاه جيهان الوفي لزوجته عام 1666م بعد أن مكث في الإقامة الأستغفراللهرية بقصر أجرا ثمان سنوات ودفن بجانب زوجته في "تاج محل".
ظل الإمبراطور "أورانج زيب" الابن حزيناً طوال حياته، متخوفاً أن يرد هذا العقوق عليه من أحد أبنائه، وكانت سيرته عطرة بين الناس إذ كان متمسكاً بالعادات الإسلامية الفاضلة، ونشر الإسلام في أكثر ربوع الهند وتوفي في جنوب الهند في مكان سمي فيما بعد مدينة (أورانج أباد).
قصر أكرا
في اليوم التالي زرت قصر (أكرا) واطلعت على تفاصل البناء الضخم الذي هو أشبه بقلعة هائلة حصينة بداخلها قصور وسكن للجيش، وتحيط بالقلعة بركة هــــــــائلة من الميـــاه عرضها عشرة أمتار تقريباً.
زرت الشرفة المفضلة التي كان يجلس فيها الإمبراطور شاه جيهان متأملاً تاج محل، ضارباً أروع الأمثلة في الوفاء والتضحية، وتخيلته يرقب مكان زوجته بنظرات حزينة شاكياً لها حاله من عقوق ابنه، دافعاً ضريبة بناء تاج محل الباهظة وهي السجن.
قمــت بزيارة قصر "فاتي بور سيكري" في أكرا والذي بناه الإمبراطور (أكبر) مؤسس أسرة الأباطرة المغول في الهند وكانت له ثلاث زوجات، مسلمة (تركيز سلطانة)، ومسيحية (مريام)، وهندوسية (جودا باي) وهي الزوجة الوحيدة التي أنأستغفراللهت له الأبناء، وهي أخت الملك الهندوسي المهراجا مان سينج ملك جيبور، وبنى لها جناحاً ملكياً، فيما كان من نصيب الزوجتين الأخريين غرفتان مستقلتان فقط، وقد هجر القصر بسبب شح المياه.
استغرقت رحلتي لمدينة جيبور زهاء ست ساعات وهي تبعد حوالي 223كم عن مدينة أجرا وكان الطريق وعراً ومرهقاً جداً، كانت هناك مناظر خلابة في الريف الهندي لحقول الأرز والذرة، ومررت في الطريق بمدن بهرات بور وسكندرا وكانتو وجاكروتا.
وصلت لعاصمة الهندوس مدينة جيبور التي كان يحكمها المهراجا مان سينج، حيث لم يهاجم أي إمبراطور مغولي هذه العاصمة إذ كانت تربط بينهم وشائج مصاهرة، فأخت هذا المهراجا هي "جودا باي" زوجة الإمبراطور أكبر وهي أم الإمبراطور جهاقير أكبر.
يبلغ عدد سكان جيبور 3 ملايين نســمة، نسبة المسلمين منهم 30%، زرت قصر أمبير الذي بناه المهراجا مرزا رجاء جستنج، وهو قصر متواضع في الأستغفراللهال إذا قارناه مع قصـــور الأباطرة المغول في أكرا.
من التجارب المثيرة هناك، ركوب الفيل الهندي، إذ كانت الفيلة تمثل صورة لثراء المهراجا بتزيينها بوشائج الذهب، بالإضافة لرياضة اندثرت، هي مصارعة الفيلة.
وتكثر في هذه المدينة الخنازير السائبة والكلاب الضالة والأبقار الهائمة ، وكان سائسو الفيلة يحتجون على حاكم الولاية بسبب قرار فرضه عليهم قبل أسبوعين من زيارتي، وهـــو منع السياح الأجــــانب من ركوب الفـــيلة بسبب إسقاط أحد الفيلة للبرج من على ظهره، وقتـــل شخص بدهـــسه فيما جرح الأربعة الآخرون.
توجهت بالطائرة من مدينة جيبور إلى بومبي بعد أن قضيت عشرة أيام ممتعة في ربوع الهند
![~[] جــوكــر []~](https://2img.net/u/1912/66/92/71/avatars/174-55.jpg)
